تدعو الكثير من المؤسسات في الدول المتقدمة والحريصة على هويتها إلى الحفاظ على تاريخها من الزوال، والمتمثل بطبيعة الحال في مبانيها والمناطق الحضرية التاريخية، والتي توثق مرحلة هامة من حياة تلك الأمم. ثمة من يقوم بتحويل تلك المنشآت إلى متاحف على سبيل المثال، وآخرون يقومون بتركها كما كانت لتصبح أشبه بتماثيل خرساء، ورغم ذلك فالمنشأة تظل حاضرة، ويبقى حالها أفضل من تلك المنشآت التي لم تحالفها الحظ وانتهى بها الحال إلى الاندثار، بقصد أو دون قصد، لتحل محلها مبانٍ جديدة شاهقة، تطمس بحضورها روح المدينة، تلك الروح الأصيلة التي من المفترض أن تروي قصتها وتاريخها وثقافة شعبها.
تتطور المدن بتطور الشعوب، وقد لا يفي التاريخ حقها حين يتم ذكرها فقط في الكتب والمراجع والأفلام الوثائقية. حضورها على أرض الواقع، ولو بعد قرون، لتكون شاهدة وحكّاءة، يلتم حولها المهتمون، ومع الوقت، سيعزز من ارتباطها بالنّاس، تلك العلاقة ما بين الجماد والحيّ، هي ببساطة أسمى طرق تلقّي التاريخ. لذا نرى دول العالم المتقدم تقوم سنويًا بتصنيف مبانيها التاريخية، وبالتالي يكون واجبًا على المؤسسات أن تحافظ عليها من الزوال. بل أن هناك دولًا يصل بهم الأمر للحفاظ على أشجار، تلك التي يتم وسمها ببطاقة تعريفية، تتيح للمارة أن يعرفوا نوعها وعمرها وتاريخها، وكما تقوم الحكومات الحريصة بتطويع الطرق والمنشآت المختلفة بحيث لا يتم المس بتلك الأشجار كونها تمثل قيمة معنوية للسكان وقد تكون أيضًا لها دلالة تاريخية يجب أن تستمر في سرد حكايتها.
نجد في بلادنا، والكثير من الدول المجاورة، تهاونّا في التعامل مع المباني التاريخية، بل هناك مدن بأكملها أُبيدت لتحل محلها مدنٌ جديدة كليًا، بحيث بات من المستحيل حتى تخيل تلك المدن القديمة كيف كانت أو حتى أين كانت. إعادة استخدام المبان القديمة ظاهرة تستحق الدراسة والتدبر، فبالإضافة إلى حفاظها على تراث وتاريخ المدن فلها مميزات أخرى يمكن تلخيصها بثلاث فوائد.
أما أول الفوائد التي من الممكن أن نحصل عليها من خلال إعادة استخدام المباني القديمة تتمثل في الحفاظ على البيئة. حين يتم هدم أي بناء هناك مواد ستتحول بطبيعة الحال إلى نفايات تثقل كاهل المدن. وسينتهي بها المطاف إلى أن تُرمى في مكان ما، وقلما ما يتم إعادة تدوير هذه المواد خاصة في الدول النامية. بينما حين يتم إعادة استخدام المباني القديمة سوف تقل كمية المواد المهدورة، وفي الوقت نفسه، سوف يتم الحفاظ على تلك المباني وسيظل باب التواصل مواربًا مع العامة.
الفائدة الثانية من إعادة استخدام المباني القديمة تتمثل في الاستدامة الاجتماعية. حيث أنه وبخلق مساحات ذات استخدامات جديدة وجاذبة لأفراد المجتمع، سيتم تأصيل مبدأ التواصل الاجتماعي على أرض الواقع، والمباني القديمة بحد ذاتها وسيلة لجذب هؤلاء الناس مما تخلق فرصة للقاء والنقاش، وتذكر تاريخٍ مضى، ومشاركة ذكرياتهم وذكريات أجدادهم من خلال تأمل المنشأة الموجودين فيها وسرد مختلف القصص التي جرت بين ردهاتها، وبالتالي سيزيد من ارتباط الناس بتاريخهم، وستمتد جسورًا بين الأجيال في التواصل وتبادل حكايات الأجداد الأوائل عبر القادم من الأجيال.
الفائدة الثالثة تكمن في الاستدامة الاقتصادية. كما تم الإشارة في الفائدة الأولى، بالإضافة إلى الحفاظ على المواد الخاصة بتلك المباني من أن تصبح مخلفات غير مرغوب فيها، سيتم توفير الأموال من الميزانية الخاصة بإنشاء المباني الجديدة. تكلفة بناء منشأة جديدة تستنزف من ميزانيات الدول، على عكس تجهيز وإعداد المباني القديمة لتحتضن نشاطات جديدة. ستتمكن الدول من خلق مساحات واعدة من تلك المباني التاريخية، وفي الوقت نفسه قد تستقطب سواحًا مما يعود بالإيجاب على الاقتصاد المحلي. وكم من مدينة تزخر بمبانيها التاريخية ومدنها التي تحكي عصورًا شتى من وجودها تكون محل جذب لشعوب وثقافات مختلفة.
من خلال الفوائد المذكورة آنفًا، يتبين لنا الهدف الأسمى من مفهوم إعادة الاستخدام، فهي تحافظ على المباني في الدرجة الأولى، وتخلق مساحات جديدة تحافظ في الوقت نفسه على التاريخ وروح المدينة.
لنتخيّل مثلًا، يعاد استخدام مبنى جميل كقصر العدل، الغنّي بالتفاصيل والعناصر المعماريّة التي لها جذور تراثيّة وإسلامية، التي على الرغم من عمرها الذي امتد لعقود، إلا أنها لا تزال تُدهش، ولا يستطع الرائي إلا الوقوف عندها والاستمتاع بالتأمل. لنخيل هذا المكان يصبح فندقًا. ببهو مهيب ذي سقفٍ يمتد عاليًا، ويعاد تقسيم المساحات في الأدوار العليا لتصبح غرفًا، تملك إطلالة جميلة على المدينة، وإطلالة داخلية عبر المساحات الخضراء الموجودة في منتصف المبنى. كما أن للمبنى أساسًا قيمة معنوية أثر تاريخي على البلاد، كيف وهو احتضن أحد أهم أجنحة السلطات الثلاث في الدولة وهي القضاء.
لنتخيل أيضًا لو أن مجمع الصوابر السكني -الذي انطلق من فكرة غير تقليدية وتصميم جميل، إلا أن التنفيذ والتشغيل أجهزا على مشروعٍ واعد كان سيكون أحد أهم الأمثلة على السكن الجماعي في المنطقة- تم تحويلة لمكان ترفيهي يضم محلات وقاعات لعرض الفنون الجميلة والمسرحية، لو لم يُهدم، ولو تم استثماره من قبل الجهات المسؤولة بالشكل الصحيح، لكان أحد أهم الوجهات الترفيهية والسياحية، خاصة للمساحة الخارجية الفريدة التي يحتويها، وتفتح المجال لفعاليات متنوعة، ليستمتع مرتادوه بالمساحات الخضراء، والنظر للغة التصميمية الفريدة للمباني المتشابهة ذات الطابع الذي يروي العقود الأولى من زمن الحداثة التي طرأت على الشكل المعماري على دولة الكويت.
لكي نجني ثمار إعادة الاستخدام لا بد من تطبيقها وفق أسس وخطة مدروسة، لن تتم بنجاح على أرض الواقع ما لم يتم تظافر جهود الجهات المختلفة في الدولة كبلدية الكويت والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، والهيئة العامة للزراعة والثروة السمكية ووزارة الأشغال العامة، وغيرها من الجهات التي لها كلمة حاسمة في عملية تنفيذ وتصميم المشاريع، سواء ترميم ما هو قائم أو استحداث الجديد. جلّ ما تعانيه البلاد من مشاكل -ولا سيما فيما يخص المباني التاريخية- هي عدم وجود قنوات مباشرة للحوار فيما بين تلك الجهات الحكومية، القرار المشترك هو المطلوب، بعد جلوس متخذي القرار على طاولة واحدة، ووضع خطة يتفق عليها الجميع بعد استعراض كافة الصعوبات والعمل على تذليلها.
لا زال في الوقت متسع، ولا زالت هناك مبانٍ تحمل إرثًا تاريخيا وقيمة معنوية موجودة تستحق أن يتم الالتفات ناحيتها، حتى يبقى لمدينة الكويت صوتٌ تروي به حكايتها، لأجيال آتية.