مقالة عن هدية تولستوي

مشاركة عبر

تقويم الحكمة “هدية تولستوي إلى البشرية”
هكذا يصف تولستوي واحدا من آخر كتبه، في عام ١٩٠٧ و بعمر ال٧٩ و قبل ثلاث سنوات فقط من وفاته، قرر صاحب ” انا كارنينا” ان يضع ما يشبه اليوميات، أو لاسميها اليوميات المحكومة بالحكم، من خلال جمع ما استستاغ له من مقولات ، من مختلف الاقطار، من كُتاب و علماء و حكماء وذلك، من خلال ما عرفه عنهم، أو ما تركوه من مؤلفات، مقتبسا جملة من هنا أو هناك، شذرة، تلك الكلمات التي يقال عنها اللب، أو الحكمة.
في ٣٤٥ صفحة، من اليوم الأول من تلك السنة إلى اليوم الاخير، يدون تولستوي في كل يوم حكمة أو حكمتين او اكثر، يقول تولستوي ان كتابه هذا هديته إلى البشرية، و من خلال جليس تُفتح هذه الهدية لأول مرة إلى القارئ العربي.
و اريد حقيقة ان استغل تقديمي البسيط لهذا الكتاب، لاخذكم في رحلة ليست بالطويلة، إلى داخل الكتاب و الى خارجه، و الواقع انه ربما إلى خارجه اكثر، لذلك ما ساكتبه ليس مراجعة للكتاب بالمعنى التقليدي،و إنما مراجعة لبعض الافكار العامة وطرح لبعض الاسئلة بشكل مختصر دون توسع او اعطاء إجابات واضحة و نهائية ، وذلك مستعينا او مستلهما من تولستوي و كتابه.
يُعرَف تولستوي كمفكر اخلاقي، بمعنى انه الى جانب شهرته كأحد اعظم الادباء، فهو يوصف جنبا الى جنب من ذلك انه “مفكر اخلاقي” لكن النظر في هذه الفكرة بالذات تطرح اكثر من إشكالية، فما معنى ان يصبح الفكر “اخلاقي”، هل يوجد تخصيص للمسالة الاخلاقية عندما يتعلق الأمر بالفكر؟ ، وهنا لا اتحدث عن مواقف خاصة حيث يظهر العمل الناتج عن الفكر لا اخلاقيا تماما مثل دعاة الحروب و المجرمون و الكثير من اصحاب الاعمال السيئة بوضوح بحيث يسهل وصفهم و تصنيفهم ،لكني أضع التساؤل و اتكلم عننا كبشر بصفة عامة، هل اصبحت المسالة الاخلاقية صعبة للغاية بحيث انها اصبحت اقرب الي التخصص، او من الضالة و الضيق بحيث نميز شخص ما بأنه ” مفكر اخلاقي”، مثلما تقول مثلا ان هذا مختص بخياطة الملابس الرجالية او عن شخص ما بأنه مختص في أسهم الشركات المحلية ، و الامر الاكثر اثارة للتساؤل من وصف “مفكر اخلاقي” مع بعضهما البعض، بأي يوصف “كمفكر”، لانه من منا لا يفكر؟، يتكلم؟ ،و يصف كل شيء و يتكلم عن كل شي؟ ان الاجابة عن هذه المسألة تطول، لست هنا للتوسع في هذا الموضوع، لكن هذا الكتاب الذي بين ايدينا يعطي الانطباع لإجابة مختصرة عن هذه الأسئلة بما يخص جانب تولستوي، انه توحي بشيء ما عن ذلك المفكر الأخلاقي، لكن الاجابة الاكثر قربا من ملامسة ما اريد قوله، أي سبب طرحي لهذا السؤال عامة ، واني في ذلك لست سوى متسائلا عن مدى سوء الواقع الذي نعيشه، و صعوبة الحصول على فكر جيد اخلاقي للانسان العادي،لأي منا ، فيوصف فقط اشخاص معينين، و ربما قلة قليلة، انهم مفكرون أخلاقيون.فذلك يحتاج حديث مطول و توسع ربما نستطيع العمل به مستقبلا.
لماذا الشذرات، أو لماذا الهدية على شكل حكم ؟
ان التساؤل هذا هو لتولستوي شخصيا، ذلك انه عُرف من خلال رواياته الطويلة ، من خلالها برع في ايصال المعاني التي يريدها، و ليس بهذه الطريقة التي هي في مؤلف ” تقويم الحكمة ” ، لماذا شذرات ؟ و بما انه من المستحيل الحصول على إجابة منه، وذلك لاسباب معروفة و لاسباب غير معروفة أيضا، فاما السبب المعروف فهو لان تولستوي ليس على قيد الحياة، اما السبب الغير معروف فهو لانه ليس من السهل الحصول على إجابة واضحة عن أي تساؤل مباشر في هذه الحياة، لذلك ساحاول انا طارح السؤال الاجابة نيابة عن تولستوي بشكل فيه الكثير من الرعونة و الأخطاء و عدم الصحة، ليس فقط لأنني لست تولستوي، و لكن أيضا لصعوبة السؤال.
لنتحدث اولا باختصار عن الفرق بين الشذرات و الروايات، و تلك المسافة التي تفصل بينهما بحيث انني استغرب ان يقوم مختص باحدهما باللجوء الى الاخرى، ما الفرق بين ما تقوله كل منهما و كيف تقوله.
ان روايات تولستوي دسمة انسانيا، اي انك تجد الكثير من ذلك المفكر الأخلاقي في وسط رواياته، لكن و هنا يقع مربط الفرس، ان روايات تولستوي هي التي تقول و ليس هو، ان الأحداث، التقلبات ،وكوارث أناس الرواية هي التي تتكلم.
هكذا تُكتب الروايات، انها لا تضع الحياة في جمل، انها تضع الجمل في الحياة، اي ان تولستوي كروائي يقول من خلال الكثرة و التفاعل و النزاع و التقلب التي في حيوة الاشخاص الذين يعيشون متفاعلين في عوالمهم النابضة داخل الرواية،، انها العيش ممتلئا بالالام و السقوط و النهوض و الحياة و الموت، هنا و من خلال ذلك الذي تخطو معه تبدو الحياة واضحة، أو اوضح، أو تتوضح.
انها حركة لا منتهية تتحرك فيها معانيك مع معاني الصفحات واحدة فالاخرى غير مستقر ولا تعرف ما ينتظرك.
اما الشذرات فهي امر مختلف تماما، لاسميها شكل من معرفة الحياة أو التعريف بها من فكر مختلف عن الفكر الروائي، انها وضوح، و نصيحة مباشرة، و إجابة نهائية، و معرفة قد تمت و اغلقت، و كل ذلك يحصل في جملة من سطرين أو ثلاثة اسطر.
و حقيقة ان هذا النوع من المعرفة المنغلق، يمثل كثيرا من شكل المعرفة الحالية المنتشر، انه صيغة من عمل فكري بسيط تظن انك قد اكملته، و يتم فرضه بسهولة على الاخرين، انه نوع من انواع النقاش التي تتم في وسائل التواصل الاجتماعي، أو تنازع فكري متسرع بين شخصين كل منهم يقول جمله الخاصة الصغيرة بغرض الانتصار على الآخر.
و انه أيضا ذلك النوع من الجمل المتشابهة التي يقولها المخطئ و المصيب و الأمين و الكاذب فلا تفرق بينهم، لأن الجمل الصغيرة دائما جذابة و دائما قوية دون أن تعمل كثيرا.
و من أجل الطرافة اتخيل ان تولستوي قد قام بالكثير من كتابه على شكل تغريدات منها ماهو كتبه و منها من اخذه من أصدقائه الذين في قائمة الإضافة لديه.
لكن حقيقة انه عندما تقرأ قائمة أصدقائه فانك لا تملك الا ان تجله و تجلهم، فهو و هم و بعيدا عن تلك التغريدات الصغيرة لديهم من الاعمال العلمية ما يكفي لان تلتفت لما يقولون.
فهناك كانط، فيثاغورث، باسكال، كارليل، شوبنهاور، هنري جورج، و غيرهم الكثير.
و بالنظر إلى كل ذلك عليك أن تنظر إلى هذه الشذرات مرارا و تكرارا، و ان تعرف مافيها، و كيفية العمل بها، و ان تفهمها حقا، و هنا تقع المهمة الاصعب، و ربما ان تقديمي لمعنى الشذرات العام كان سيئا، الا انه بالنظر إلى أن شخصية مثل تولستوي قد قامت بذلك،و لجأت إلى الشذرات، فان هذا معناه انها تحتوي على شي، و تحتوي على الكثير، لكن فقط ان ما أقوله و مافيه وجهة نظري ان الاستفادة من الشذرة، أو الحكمة، لا يتطلب فيها مجرد قولها و تكرارها و الاستئناس بها، انها ليست اكتفاء، انها تتطلب الكثير من الاشياء و العمل، التي هي من مسؤولية من يقرأها.
ان الكتاب بذلك يشبه المرجع الذي تستطيع العودة اليه، و الاستفادة منه، استخلاصه و إعادة استخلاصه، ان قراءة هذه الحكم و اي حكم اخرى هي مسؤولية و عمل لا ينتهي، و عنده هذه النقطة بالذات تلتقي روح الرواية مع روح الحكمة.
و قد غطى تولستوي العديد من المواضيع في كتابه، يمكن النظر إليها على انها مواضيع ذات أهمية مستمرة، ولطريقة عمله فيها اهمية في اعطاء اجابة جيدة عن اي تساؤل متعلق بهذه المواضيع ، لذلك تمنيت لو كانت الشذرة الاخيرة، واضعا فيها حكمته الاخيرة، متعلقة بالمبلغ الذي سيرغب تولستوي في ان يتم بيع مؤلفه لدينا، ربما و لسوء الحظ و قياسا على ما علمته عنه، سيقول قوموا بذلك مجانا، وزعوه و انشروه باسم الفضيلة، هكذا تأتي الافكار المثالية من الاشخاص المثاليون، لكن الشرط الاخير الذي تغافل عنه تولستوي تخيليا ان ذلك يتطلب شرط اخير، و هو العالم المثالي.
ذلك ليس عالم المنافسه و الحياة و الرغبة و العمل و المسؤوليات و العائلة و المستقبل المضمون.
نعم ذلك لا يتناسب مع رغبة تولستوي الاخيرة، و ايضا و كما أن تولستوي متخصص كمفكر اخلاقي، و هناك ذلك الرجل الذي يضارب بالاسهم، و الآخر الذي يقود الحافلة، و رجل شباك تذاكر السينما، و الممثل و المخرج، و كذلك انا هنا، و العدد اللا نهائي من الاعمال المختصة، هناك أيضا حاتم في جليس الذي يضع اسعار الكتب وفقا لما يراه و يعرفه و يظنه، انه شي من ضمن خبرته ومسؤوليته، طلب تولستوي سوف يصيب حاتم بالحزن و الغضب، ان ذلك تعدي على تخصصه، انه هذا العالم الذي نحن فيه عالم تخصص، كل يقوم بعمله الخاص ضمن منطق ذلك العمل دون تدخل و دون وجود أساسيات عامة تحكم الجميع، انه عالم فرادى حيث يقود كل شخص ملكيته الخاصة باسم العالم الجديد.
سوف تبقى هذه الحكمة الاخيرة المتعلقة بقيمة العلم مؤجلة طويلا إلى أن نجد حل لمشكلة هذا العالم شديد التعقيد، السيء ؟ ربما نعم هو عالم سيء لما نراه من ظلم و اجحاف و تحطيم و كل انواع البشاعة، حتى اننا لا نجد بعد اكثر من مئة عام من هذا الكتاب ان أصغر حكمة و ابسط حكمة و حتى اقلها شأنا من حكم تولستوي و قد تحققت
على أرض الواقع، و ان الهدايا الجيدة في هذا العالم لم تعد مقبولة.